أطفالنا أكبادنا تمشي على الأرض، أنعم الله بهم علينا ليمنحونا السعادة والهناء، وعلى الرغم من الصعوبات الكثيرة التي تواجهنا مع أبنائنا منذ نعومة أظفارهم وحتى بلوغهم مرحلة الشباب إلا أنهم يمثلون لنا دائماً وأبداً سبباً قوياً من أسباب الحياة.
وقد تعددت وتباينت- في العصر الحديث- المدارس التي تتناول موضوع تعامل الآباء مع الأبناء وفق منظور علمي أو نفسي مستمد من حاجات المجتمع ومتطلباته، وبالرجوع إلى توجيهات هذه المدارس نجد أن هناك التقاء بينها وبين منهج رسولنا الكريم الذي أتي به منذ ما يزيد على 1400 سنة قبل أن تظهر تلك المدارس بأفكارها وأبحاثها ودراساتها.
· اهتمام الإسلام بالطفولة
أعطى الإسلام اهتماماً بالغاً بالطفولة، وحفظ للطفل حياته منذ تكونه جنيناً وأولاه الرعاية والعناية صغيراً وحظر على الوالدين أن يهملا في تربيته، وقد ترك لنا رسولنا الكريم إرثاً كبيراً من المواقف والقصص والأحداث التي تعلمنا التعامل مع الأطفال وعدم اعتبارهم قصّراً بعيدين عن إدراك ما يحدث حولهم من أمور، والباحث في هذا الإرث يجد مدرسة متكاملة المناهج، ثابتة المبادئ، راسخة الأصول في التربية والتنشئة الصالحة.
من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم:
أولاً:
تشجيع الطفل على طلب العلم ومخالطة العلماء، ففي حضور الناشئ مجالس العلماء ومن يكبرونه سناً وقدراً تكريمُ له وتوسيعُ لمداركه وتبصيرُ له بأمور الحياة، ولكن ينبغي على الأبوين تعليمه آداب المجلس وكيفية التخلق فيه فلا يطاول الكبار في مجالسهم أو يتقدمهم بحديث أو كلام.
وقد روي مسلم في صحيحه أن سَمُرَة بن جندب رضي الله عنه قال: لقد كنت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً، فكنت أحفظ عنه فما يمنعني من القول إلا أن ها هنا رجالاً هم أسن مني.
ومن القصص التي تروي عن تشجيع رسولنا الكريم للأطفال على طلب العلم.
ما رواه البخاري عن ابن عباس – رضي الله عنه- قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فقال بعضهم: لم تُدخل هذا الفتى معنا، ولنا أبناء مثله، فقال: إنه ممن قد علمتهم، قال: فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم قال وما رأيته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني فقال: ما تقولون ( إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون) حتى ختم السورة، فقال بعضهم: أُمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نُصرنا وفُتح علينا، وقال بعضهم لا ندري، ولم يقل بعضهم شيئاً، فقال لي: يا ابن العباس أكذلك تقول؟ قلت: لا ، قال: فما تقول؟
قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله له ( إذا جاء نصر الله والفتح ) فتح مكة، فذاك علامة أجلك ( فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً ) قال عمر ما أعلم منها إلا ما تعلم.
ومن المهم مناقشة الطفل وطلب رأيه فيما يسمعه من أحداث مع توضيح ما غمض عليه منها وفقاً للمرحلة العمرية التي يمر بها.
ثانياً:
المداعبة والتعليم بطريقة اللعب، وهذه من الأمور التي تعتبرها المدارس الحديثة ذات فائدة ونفع في تعليم الطفل وأكثرها أهمية لقربها إلى نفسية الطفل وتكوينه السيكولوجي.
وهناك الكثير من الأحاديث التي تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر هذا النهج وعمل به ومن القصص التي تؤيد ذلك ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، وكان لي أخ يقال له أبو عمير، وكان إذا جاء قال: " يا أبا عمير ما فعل النغير"
والنغير تصغير لكلمة نغر وهو طائر كان يلعب به، فربما حضر الصلاة وهو في بيتنا، فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس وينضح، ثم يقوم ونقوم خلفه فيصلي بنا.
وفي هذا الحديث درس كبير في تربية الأطفال وتشويقهم والتودد إليهم بما يحبونه والاستعانة بذلك لتشجيعهم على أداء واجباتهم الدينية ليكبروا ملتزمين مدركين لحقوقهم وواجباتهم.
ثالثاً:
التلطف بهم واحترام مشاعرهم ومواساتهم، فقد روى أنه ذات مرة كان صلى الله عليه وسلم يمشي في السوق فرأى أبا عمير يبكي، فسأله عن السبب فقال له " مات النغير يا رسول الله " فظل صلى الله عليه وسلم يداعبه ويحادثه ويلاعبه حتى ضحك، فمر الصحابة بهما فسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عما أجلسه معه، فقال لهم " مات النغير، فجلست أواسي أبا عمير ".
وفي هذا الموقف بيان واضح لرحمته صلى الله عليه وسلم وعطفه على الأطفال.
رابعاً:
التقرب إلى الأطفال بالهدايا والهبات، ومما يدل على ذلك ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذه قال: " اللهم بارك لنا في ثمرنا وبارك لنا في مدينتنا" ثم يدعو أصغر وليد يراه فيعطيه ذلك الثمر.
خامساً:
التأكيد على عدم غشهم أو الكذب عليهم، ومما جاء في ذلك حديث عبد الله بن عامر رضي الله عنه، قال: " دعتني أمي ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا فقالت: ها تعال أعطيك" فقال لها صلى الله عليه وسلم: " ما أردت أن تعطيه؟"
قالت " أعطيه تمرا"، فقال لها: " أما أنك لو لم تعطيه شيئاً كتبت عليك كذبة".
فالكذب على الطفل يفقده ثقته بأبويه ويعطيه شعورا بالاغتراب فينصرف عن الاستماع إليهما ويعمد إلى تقليدهما بالكذب.
سادساً:
التأديب بلطف مع بيان السبب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ الحسن بن علي رضي الله عنهما تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كخ، كخ، ارم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة؟".
ومن هنا نرى كيف يكون التوجيه بحب ولطف بعد المراقبة الدقيقة فإن فشلا تأتي بعدهما القسوة المحببة التي تنبع من قلوب تقصد الخير، لا الانتقام والتشفي.
وأخيراً قائتي العزيزة
إن أطفالنا نبتات طرية فإذا تركت دون ركائز مالت واعوجت، فلتكن ركائزنا مستمدة من نهج رسولنا الكريم ومن ذاك النبع الدافق من الحب والعطاء الذي علينا أن التربية السليمة تبدأ منذ نعومة الأظفار، فما ينشأ عليه الطفل من صغره يصبح ملازماً وراسخاً معه في كبره وقد قال الشاعر:
وينشأ ناشئ الفتيان فينا
على ما كان عوّده أبوه
· من تجارب الأمهات
كانت الأم تحكي لطفلها منذ نعومة أظفاره سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وكيف كان خَلقه وُخلقه، ولما بلغ العاشرة من عمره أكره الله تعالى بزيارة قبره صلى الله عليه وسلم، ولما عاد قال لها: " إني أحب الرسول جداً وأتمنى رؤيته، ومقابلته في الجنة: ولكني لا أحب أن يكون ملتحياً؛ فأنا أفضله بدون لحية! فكان على الأم أن تتصرف بلباقة فقالت له: " أنا متأكدة يا بني أنك حين تراه ستحبه أكثر بكثير، سواء كان ملتحياً أم لا"، ولكنه أصر قائلاً: " لا ، أنا أحبه بدون اللحية " ، فقالت له الأم: " هل تعلم لماذا كان يربي الرسول لحيته؟"
قال: "لا"، فقالت له: " لأن اليهود كانوا يحلقون اللحية، ويعفون الشارب، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يخالفهم.. أم أنك كنت تفضل أن نتشبه بهؤلاء القوم؟ " فرد على الفور: " لا ، لا يصح أن نتشبه بهم أبداً" وانتهى الحوار، ولم يعد يتكلم في هذا الموضوع أبداً.
وكانت أم أخرى تعاني من أن أصحاب ابنها من الجيران والزملاء لا يلتزمون بالأخلاق التي ربته عليها، مما تسبب له في إحباط وعدم ثقة في تلك الأخلاق؛ لأنه لا يريد أن يشذ عن أصدقائه وزملائه، فقررت الأم أن تدعو مجموعة من هؤلاء الأصحاب في الإجازة الصيفية ليلعبوا معه بمختلف الألعاب التي لديه، وفي نهاية الجلسة كانت تقدم لهم بعض الفطائر والعصائر أو المرطبات وتجلس معهم لتحكي قصصاً عن خلق معين من أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم مع توضيح فائدة الالتزام بهذا الخلق، وكانوا يقاطعونها أحياناً ليكملوا حديثها، فكانت تتركهم يتكلمون- لأن ذلك يسعدهم – ثم تكمل حديثها؛ وكانت تكتفي بالحديث عن خلق واحد في كل مرة.. حتى شعرت في نهاية الإجازة بتطور ملحوظ في سلوكياتهم جميعاً، وفي طريقة حديثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانت أم ثالثة تحكي لأطفالها عن أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وطباعه، وكيف كان يفكر، وكيف كان يحل شتى أنواع المشكلات، حتى اطمأنت إلى أنهم قد فهموا ذلك جيداً، فصارت بعد ذلك كلما مر أحدهم بمشكلة جمعتهم وسألت: " تُرى كيف كان سيحلها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!".
ثم تكافئ من يقدّم الحل الصحيح.. فكانت بذلك تعلمهم كيف يطبقون هديه صلى الله عليه وسلم في حياتهم بطريقة عملية متجددة، حتى يعتادوا ذلك في الكبر، ويعتادوا أيضاً مشاركة بعضهم بعضاً في حل مشكلاتهم